الانتحار
يحيى بن موسى الزهراني
الحمد لله شافي الصدور ، وقاضي الأمور ، وأشهد أن لا إله إلا الله الرحيم الشكور ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه أنزل عليه الكتاب شفاءً لما في الصدور ، وعلى آله وصحبه أهل الدثور والأجور ، ومن تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم إلى يوم البعث والنشور ، وعنا معهم برحمتك ومنك وكرمك يا عزيز يا غفور . . . أما بعد :
فلقد ضاقت صدور كثير من العباد اليوم بسبب كثرة الماديات ، ومشاهدة الفضائيات ، والإسراف في المحرمات والسيئات ، والاقتصاد في الطاعات والحسنات ، فحصلت تلك الآهات ، وكثرت تلك الصرخات ، بل وحصل أدهى من ذلك وأمر ، فصارت الوسوسة حتى أن البعض يفكر كيف يتخلص من نفسه جراء الضيق والحسرة والوحشة التي يعيشها ، فلا طعم للحياة عنده ، ولا هدف ولا غاية يرى أنه من أجلها خلق ، وكل ذلك بسبب الابتعاد عن المنهج القويم والصراط المستقيم ، وحصلت الوسوسة حتى في العبادة ، فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً ؟ وفي الوضوء أغسل ذلك العضو أم لم يغسله ؟ بل وأصبح البعض يوسوس حتى في أهل بيته ، أهذه الزوجة عفيفة نقية ؟ أم غير ذلك ؟ فالحاصل أن الوسوسة سيطرت على بعض الناس سيطرة تامة حتى أنه لا يجد للراحة طعماً ، ولا يغمض له جفناً ، ولا يرى للوجود سبباً ، وكل ذلك بسبب الاستسلام للشيطان وما يسببه من أوهام ، وسفيه الأحلام ، فعلى المسلم أن يتوسل إلى الله تعالى لذهاب وسوسة الشيطان ونزغاته ، وكل ذلك موجود وثابت في ديننا الحنيف ، فمن أراد طرد تلك الوساوس فعليه بالقرآن والأذكار قبل أن ينام ، ففيها الشفاء التام ، بإذن الله العلام .
الشيطان عدو الإنسان :
لقد أخذ الشيطان ـ أعاذنا الله منه ـ العهد والميثاق ، لغواية بني آدم ، وجاء ذلك صريحاً في كتاب الله عز وجل حيث قال تعالى : { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } ( ص82-85 ) ، ولهذا حذر الله تبارك وتعالى من الشيطان وكيده وجنده وبين ذلك واضحاً جلياً في القرآن الكريم ، فقال تعالى : { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } ( فاطر6 ) ، فالواجب على من ميزه الله بالعقل ووهبه هذه النعمة العظيمة أن يستعملها فيما خلق من أجله ألا وهي عبادة الله وحده لا شريك له ، ويجعل كل وقته أو أكثره مسخراً لطاعة مولاه الذي خلقه فسواه ، ووهب له النعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى ، ومن استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير فقد خسر وخاب وندم ، فطاعة الله عز وجل ، وطاعة الشيطان الرجيم لا تجتمعان في قلب إنسان أبداً ، فالله يدعو إلى الجنة والمغفرة ، يدعو عباده للرحمة والرأفة ، أما الشيطان عدو الإنسان فلا يدعو إلا إلى كل فاحشة ورذيلة ، وكل ما يبعد عن الفضيلة ، فهو يدعو العباد إلى السخط والنار والعياذ بالله ، قال تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً } ( الكهف 50 ) ، فكان اتباع الشيطان من أسباب الانتكاسة والخسارة في الدنيا والآخرة ، الشيطان يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ، فإن هم أطاعوه واتبعوا الهوى والشهوات ، وارتكبوا المحرمات والمنهيات ، وإن هم تركوا الطاعات ، وهجروا القربات ، فإن هم فعلوا ذلك فقد أحلوا بأنفسهم دار البوار ، وستحل بهم النقمات ، ثم سيتخلى عنهم شيطانهم الذي اتبعوه واتخذوه ولياً لهم من دون الله ، نعم سيعترف لهم بعد أن يكونوا حطباً لجهنم ، وحصباً لها ، أنه لم يأمرهم إلا بالباطل فاتبعوه ، فهو ليس مسؤولاً عنهم ، ولم يجبرهم على اتباعه ، ولا سينقذهم من النار ، إذ كيف سينقذهم منها وهو خالد فيها ؟ والقرآن يصور هذه الأحداث لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فيقول الله تعالى : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم } ( إبراهيم22 ) ، فالشيطان لا يفتأ يوسوس للإنسان حتى تزل قدمه عن طريق النجاة ، وتتفرق به السبل ، ويغرق في لجج المعاصي والآثام ، وتتلاطم به بحور الذنوب العظام ، فتضيق به نفسه ، وتتفاقم الدنيا عنده ، فيلهث من أجلها ، فيصبح لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ، فهذا هو الشيطان عدو الإنسان .
عمليات انتحارية :
الانتحار : هو تعدي الإنسان على نفسه ، أي أن يقتل الإنسان نفسه متعمداً ، وهذا العمل كبيرة من كبائر الذنوب ، وقتل النفس ليس حلاً للخروج من المشاكل التي يبثها الشيطان ، والوساوس التي يلقيها في النفوس ، ولو لم يكن بعد الموت بعث ولا حساب لهانت كثير من النفوس على أصحابها ، ولكن بعد الموت حساب وعتاب ، وقبر وظلمة ، وصراط وزلة ، ثم إما نار وإما جنة ، ولهذا جاء تحريم الانتحار بكل وسائله من قتل الإنسان نفسه ، أو إتلاف عضو من أعضائه أو إفساده أو إضعافه بأي شكل من الأشكال ، أو قتل الإنسان نفسه بمأكول أو مشروب . ولهذا جاء التحذير عن الانتحار بقول ربنا جلت قدرته وتقدست أسماؤه حيث قال : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما * ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً } ، وقال تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } . وقال تعالى : " ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق . . . إلى قوله تعالى : " ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً " ، وكذلك جاء التحذير في سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن شرب سماً ، فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " [ رواه مسلم ] .
وعن أبي هريرة قال شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام هذا من أهل النار فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل يا رسول الله الرجل الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى النار فكاد بعض المسلمين أن يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت ولكن به جراحا شديدا فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالاً فنادى في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " [ رواه مسلم ] .
وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا فلما مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه من أهل النار فقال رجل من القوم أنا صاحبه أبدا قال فخرج معه كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه قال فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه وضوء وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أشهد أنك رسول الله قال وما ذاك قال الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه وضوء وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذلك إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة " [ رواه مسلم ] .
وعن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان برجل جراح فقتل نفسه فقال الله بدرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة " ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعنها يطعنها في النار " [ رواه البخاري ] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال وكثرت به الجراح فأثبتته فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الذي تحدثت أنه من أهل النار قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال فكثرت به الجراح فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إنه من أهل النار فكاد بعض المسلمين يرتاب فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهما فانتحر بها فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله صدق الله حديثك قد انتحر فلان فقتل نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بلال قم فأذن لا يدخل الجنة إلا مؤمن وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " [ رواه البخاري ] .
وعن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من خنق نفسه في الدنيا فقتلها خنق نفسه في النار ومن طعن نفسه طعنها في النار ومن اقتحم فقتل نفسه اقتحم في النار " [ رواه ابن حبان ] .
وعن جابر بن سمرة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أصابته جراح فآلمت به فدب إلى قرن له في سيفه فأخذ مشقصاً فقتل نفسه فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم " [ رواه الطبراني في الكبير ] .
هذه عاقبة الانتحار والعياذ بالله ، ويجب على المسلم أن يعلم أن الانتحار فيه تسخط على قضاء الله وقدره ، وعدم الرضا بذلك ، وعدم الصبر على تحمل الأذى ، وأشد من ذلك وأخطر وهو التعدي على حق الله تعالى ، فالنفس ليست ملكاً لصاحبها وإنما ملك لله الذي خلقها وهيأها لعبادته سبحانه ، وحرم إزهاقها بغير حق ، فليس لك أدنى تصرف فيها ، وكذلك في الانتحار ضعف إيمان المنتحر لعدم تسليم المنتحر أمره لله وشكواه إلى الله .
ما كان الانتحار علاجاً ولن يكون ، الانتحار حرام بكل صوره وأشكاله ، وليس دواءً يوصف للمعضلات والمشكلات ، بل داء يسبب الانتكاسة والحرمان من الجنة ، ويجلب سخط الرب تبارك وتعالى ، قال صلى الله عليه وسلم : " تداووا ولا تداووا بحرام " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " ما جعل الله شفاءكم فيما حرم عليكم " ، فالانتحار منهي عنه نهي تحريم لما فيه من إزهاق النفس البشرية بغير وجه حق ، قال صلى الله عليه وسلم : " ما أنزل الله داءً إلا وأنزل له دواء علمه من علمه ، وجهله من جهله " ، فلا توجد مشكلة إلا ولها من الحلول ما يناسبها ، إن الانتحار لهو دليل على ضعف الدين ، وقلة التوكل على الله تعالى ، الانتحار سمة أهل النار ، وهذا أخطر أمراض الوسوسة على الإطلاق ، فالواجب على المسلم أن يحسن الظن بالله تعالى ، أما سوء الظن بالله فهو من أسباب سوء الخاتمة أعاذنا الله منها ، فتجد الإنسان يعترض على قضاء الله وقدره ، لما يحصل له من مرض ووسوسة ، وهم وغم ، ولم يعلم أن ذلك بقدر الله تعالى تخفيفاً من الذنوب وزيادة في الأجر ، فكل ما يصيب الإنسان من مرض حتى الشوكة يشاكها فإنه يكفر عنه بها من خطاياه ، حتى يلقى الله تعالى وليس عليه خطيئة .
وليعلم المسلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، فليصبر وليحتسب ذلك عند ربه ، حتى لا يقع في محذور من أخطر المحاذير ألا وهو التسخط من قدر الله تعالى ، بل يجب على المسلم أن يحسن الظن بالله ولا يموت إلا وهو كذلك .
فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه وبلغه أمانيه ، ومن كره لقاء الله تعالى كره الله لقاءه وتركه وأهواءه ، وسوء الظن بالله سببه الإعراض عنه الله تعالى في الدنيا بفعل المعاصي وارتكاب الذنوب ، وعدم الخوف منه سبحانه ، وعدم محبته وإن زعم من زعم من أهل الآثام أنه يحب الله ورسوله ، فكلامه مردود بعمله ، فيجب أن يوافق قوله فعله ، يقول الله تعالى : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً * ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } ( طه 124-127 ) .
نجلة قستي
الجناية على م دون النفس
لجناية على ما دون النفس مطلقا فالكلام في هذه الجناية يقع في موضعين : أحدهما : في بيان أنواعها ، والثاني في بيان حكم كل نوع منها ، أما الأول فالجناية على ما دون النفس مطلقا أنواع أربعة : أحدها : إبانة الأطراف ، وما يجري مجرى الأطراف ، والثاني : إذهاب معاني الأطراف مع إبقاء أعيانها ، والثالث : الشجاج ، والرابع : الجراح ، أما النوع الأول فقطع اليد والرجل والأصبع والظفر والأنف واللسان والذكر والأنثيين والأذن والشفة وفقء العينين وقطع الأشفار والأجفان وقلع الأسنان وكسرها وحلق شعر الرأس واللحية والحاجبين والشارب .
وأما النوع الثاني فتفويت السمع والبصر والشم والذوق والكلام والجماع والإيلاد والبطش والمشي ، وتغير لون السن إلى السواد والحمرة والخضرة ونحوها مع قيام المحال الذي تقوم بها هذه المعاني ، ويلحق بهذا الفصل إذهاب العقل .
وأما النوع الثالث : فالشجاج أحد عشر أولها : الخارصة ، ثم الدامعة ، ثم الدامية ، ثم الباضعة ، ثم المتلاحمة ، ثم السمحاق ، ثم الموضحة ، ثم الهاشمة ، ثم المنقلة ، ثم الآمة ، ثم الدامغة .
( فالخارصة ) : هي التي تخرص الجلد أي تشقه ، ولا يظهر منها الدم والدامعة : هي التي يظهر منها الدم ولا يسيل كالدمع في العين والدامية : هي التي يسيل منها الدم والباضعة : هي التي تبضع اللحم أي تقطعه والمتلاحمة : هي التي تذهب في اللحم أكثر مما تذهب الباضعة فيه هكذا روى أبو يوسف وقال محمد : المتلاحمة قبل الباضعة ، وهي التي يتلاحم منها الدم ويسود والسمحاق : اسم لتلك الجلدة إلا أن الجراحة سميت بها والموضحة : التي تقطع السمحاق ، وتوضح العظم أي : تظهره والهاشمة : هي التي تهشم العظم أي تكسره والمنقلة : هي التي تنقل العظم بعد الكسر أي : تحوله من موضع إلى موضع والآمة : هي التي تصل إلى أم الدماغ ، وهي جلدة تحت العظم فوق الدماغ والدامغة : هي التي تخرق تلك الجلدة ، وتصل إلى الدماغ فهذه إحدى عشر شجة ، ومحمد ذكر الشجاج تسعا ، ولم يذكر الخارصة ولا الدامغة ; لأن الخارصة لا يبقى لها أثر عادة ، والشجة التي لا يبقى لها أثر لا حكم لها في الشرع ، والدامغة لا يعيش الإنسان معها عادة بل تصير نفسا ظاهرا وغالبا فتخرج من أن تكون شجة فلا معنى لبيان حكم الشجة فيها ; لذلك ترك محمد ذكرهما والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
( وأما ) النوع الرابع فالجراح نوعان : جائفة وغير جائفة ، فالجائفة : هي التي تصل إلى الجوف ، والمواضع التي تنفذ الجراحة منها إلى الجوف : هي الصدر ، والظهر ، والبطن ، والجنبان ، وما بين الأنثيين والدبر ، ولا تكون في اليدين والرجلين ولا في الرقبة والحلق جائفة ; لأنه لا يصل إلى الجوف .
وروي عن أبي يوسف إن ما وصل من الرقبة إلى الموضع الذي لو وصل إليه من الشراب قطرة يكون جائفة ; لأنه لا يقطر إلا إذا وصل إلى الجوف ، ولا تكون الشجة إلا في الرأس والوجه وفي مواضع العظم مثل : الجبهة ، والوجنتين ، والصدغين ، والذقن دون الخدين ، ولا تكون الآمة إلا في الرأس والوجه ، وفي الموضع الذي تتخلص منه إلى الدماغ ، ولا يثبت حكم هذه الجراحات إلا في هذه المواضع عند عامة العلماء رضي الله عنهم وقال بعض الناس : يثبت حكم هذه الجراحات في كل البدن ، وهذا غير سديد ; لأن هذا القائل إن رجع في ذلك إلى اللغة فهو غلط ; لأن العرب تفصل بين الشجة وبين مطلق الجراحة فتسمي ما كان في الرأس والوجه في مواضع العظم منها شجة ، وما كان في سائر البدن جراحة ، فتسمية الكل شجة يكون غلطا في اللغة ، وإن رجع فيه إلى المعنى فهو خطأ ; لأن حكم هذه الشجاج يثبت للشين الذي يلحق المشجوج ببقاء أثرها بدليل أنها لو برئت ولم يبق لها أثر لم يجب بها أرش والشين إنما يلحق فيها فيما يظهر في البدن ، وذلك هو الوجه والرأس ، وأما ما سواهما فلا يظهر بل لعلها يغطى عادة فلا يلحق الشين فيه مثل ما يلحق في الوجه والرأس [ ص: 297 ] والله - سبحانه وتعالى - الموفق .
نجلة قستي
برنامج تاريخ الفقه الإسلامي-الحلقة الثانية بعنوان تعريف الفقه ـــ الشيخ صالح المغامسي
malaak jabr
برنامج تاريخ الفقه الإسلامي * الحلقة الأولى :ـــ الشيخ صالح المغامسي
malaak jabr
المذاهب الاربعة
تقوم المذاهب الفقية على استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الواردة في الكتاب والسنة وفق قواعد وأصول فقهية محددة، ويمكن تسميتها مدارس فقهية لاتفاقها في العقيدة والأصول والشريعة ولكن قد تختلف قليلا في الأحكام المستنبطة. والمذاهب الفقهية الأربعة التي انتشرت بشكل واسع عند أهل السنة وأصبحت رسمية في معظم كتبهم وهي تمثل الاجتهادات الفقهية الراجعة للأئمة الأربعة من أهل السنة والجماعة وهم حسب ترتيبهم التاريخي كالاتي:
- الإمام أبو حنيفة النعمان ومذهبه الحنفي تأسس المذهب في العراق بغداد.
- الإمام مالك بن أنس ومذهبه المالكي تأسس المذهب في الحجاز المدينة المنورة.
- الإمام محمد بن إدريس الشافعي ومذهبه الشافعي تأسس المذهب في العراق بغداد.
- الإمام أحمد بن حنبل ومذهبه الحنبلي تأسس المذهب في العراق بغداد.
t.nov.
#hager.
أهم المصطلحات الفقهية
1. الفرض : ما طلب الشارع فعله طلبا جازما و ثبت الطلب بدليل قطعي لا شبهة فيه كالقرآن و السنة المتواترة , أو الإجماع , و كانت الدلالة قطعية , و هو اعلى مراتب التكليف الشرعي .
حكمه : لزوم فعله مع الثواب , و العقوبة على تركه . ( و من ينكر الفرض كفر و خرج عن الإسلام ) .
2. الواجب : ما طلب الشرع فعله طلبا جازما , و لكنه دون مرتبة الفرض , لأنه ثبت بدليل ظني .
حكمه : الثواب على فعله , و العقاب على تركه . ( و لا يكفر منكره )
3. السنة : هي ما طلب الشرعف فعله طلبا غير لازم .
حكمها : يثاب فاعله و لا يعاقب تاركه . و لكن تارك السنة معرض للعتاب من الرسول صلى الله عليه و سلم , و قد قسمت السنن إلى قسمين :
- سنة مؤكدة : و هي ما واظب النبي صلى الله عليه و سلم على فعلها , و نبه على عدم فرضيتها أو مع الترك أحيانا , كصلاة ركعتين قبل الفجر مثلا , و كصلاة الجماعة مثلا .
- سنة غير مؤكدة : و هي التي لم يواظب الرسول صلى الله عليه و سلم على فعلها , بل تركها في بعض لأحيان , كالصلاة أربع ركعات قبل العصر و العشاء .
4. المستحب : هو أمر يعد من السنة و لكنه دون المرتبتين السابقتين .
حكمه : يثاب فاعله و لا يلام تاركه .
5. الحرام : ما طلب الشرع تركه طلبا جازما , و ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه .
حكمه : وجوب اجتنابه و العقوبة على فعله . ( و يكفر منكره )
6. المكروه كراهة التحريم : ما طلب الشرع تركه طلبا لازما جازما , و لكن ثبت الطلب بدليل ظني و ليس قطعي .
حكمه : الثواب على تركه و العقاب على فعله . ( و لا يكفر منكره ) .
7. المكروه كراهة التنزيه : هو ما طلب الشرع تركه طلبا غير جازم .
حكمه : يثاب تاركه و يلام فاعله .
8. المباح : هو ما لا يكون مطلوبا فعله و لا تركه , بل يكون الإنسان فيه مخيرا بين الفعل و الترك .
9. الشرط و الركن : سبق أن عرفنا الفرض , و الفرض ينقسم إلى قسمين , قسم خارج عن حقيقة الفعل المطلوب و يجب الإتيان به قبل البدء بالفعل , لأنه تتوقف عله صحة الفعل , و هو ما يسمى بعرف الفقهاء الشرط , و قسم يكون جزءاً من حقيقة الفعل أي لا يتحقق إلا به , و هو الركن .
10. الأداء و القضاء : الفرائض و الواجبات المقيد فعلها من قبل الشارع بزمان إذا فعلها المكلف في وقتها الذي حدده الشارع مستوفيا أركانها و شرائطها , سمي فعله اداء ( أي أدى ما وجب عليه , و برئت ذمته ) . و إذا فعلها بعد وقتها الذي حدده الشرع , سمي فعله قضاء
قتل الرحمة
قتل الرحمة
التعريف بقتل الرحمة: قتل الرحمة هو: إنهاء حياة مريض لا يُرجَى شفاؤه من آلامه المبرحة بدواعي الإشفاق عليه، سواء كان هذا بطلب المريض أو بطلب أهله، أو بإرادة منفردة من الطبيب أو الممرض أو غيره، وسواء أكان الإنهاء بفعل إيجابي أم بفعل سلبي·
ويقسم القانونيون والأطباء قتل الرحمة إلى نوعين:
النوع الأول: قتل الرحمة الإيجابي وذلك بالفعل والمبادرة: ويكون بإعطاء الطبيب أو غيره للمريض ماينهي حياته وآلامه، سواء كان هذا المعطى طعاماً، أو سماً ماحقا، أو دواء مميتا أو نحو ذلك مما يعجّل بإنهاء حياة المريض ووفاته·
وقد يكون هذا النوع من القتل بإزالة ورفع وسائل التغذية الموصولة إلى جسم المريض، أو إزالة ورفع أجهزة الإنعاش الصناعي الموضوعة للمريض، أو نحو ذلك مما يعالج به المريض فعلا للإبقاء على حياته·
النوع الثاني: قتل الرحمة السلبي وذلك بالامتناع عن الفعل: ويكون بامتناع الطبيب أو غيره عن إعطاء المريض العلاج اللازم، أو منع توصيل أجهزة الانعاش الصناعي للمريض الذي هو في حاجة إليها للإبقاء على حياته، مما يرتب على ذلك مضاعفات خطيرة تؤدي وتعجّل بإنهاء حياة المريض·
> هل عرف المسلمون قتل الرحمة؟
لم يعرف المسلمون في تاريخهم مايسمى: >قتل الرحمة<، ولم يكن شائعا فيما بينهم، بل إن هذا القتل خروج على تعاليم الإسلام وتوجيهاته، لأن تعاليم الإسلام تعتبر النفس البشرية أمانة عند صاحبها وليست ملكاً له، وإنما هي ملك لله تعالى ينبغي المحافظة علىها، بل إن الإسلام يحث المريض، وأهله على الصبر، ويعتبر المرض امتحاناً من الله تعالى، يكفر به الذنوب ويؤجر عليه المريض بأحسن الجزاء إذا اقترن مع الصبر، ففي الآية >155 من سورة البقرة< {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين}، وفي الحديث المتفق عليه: >ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همِّ ولا حزن ولا أذى ولا غمِّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّرالله بها من خطاياه<·
وقد منع الإسلام المريض وأهله من تمني موته ليتخلص مما يعانيه، وأرشدهم إلى طلب الخير أنى هو، ففي الصحيحين: >لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لابد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي<·
بل إن التعاليم الإسلامية تدعو إلى زيارة المريض ومؤانسته ورعايته وأهله والدعاه له، وتحث على زيادة اللجوء إلى الله وحده ليكشف الضر ويرفع البلاء، وفي الصحيحين أن النبي [ كان يعود المرضى ويقول: >رب الناس أذهب الباس، اشف أنت الشافي، لاشفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما<، وفي >سورة النمل الآية -62<{أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويشكف السوء}، وفي سنن الترمذي: >إذا دخلتم على مريض فنفِّسوا في أجله<، أي أسمعوه الكلام الطيب، وأمِّلوه بطول العمر، وأنه سيشفى من مرضه بإذن الله تعالى، ويعود إلى ممارسة أعماله وحياته العادية صحيحاً معافى·
< نظرة القوانين إلى قتل الرحمة
ترتبط فكرة قتل الرحمة عموما بنظرية طلب الانتحار أو الشروع في قتل النفس، وكان هذا شائعا ولا يزال في بعض المجتمعات، وهو يقوم على فلسفة الحرية الشخصية المطلقة للإنسان، وأنه هو مالك بدنه وروحه يتصرف فيها كما يشاء، وخصوصا إذا كان تصرفه لغايات ومسوغات سامية، كتكفيره عن تقصير اجتماعي أو جرم وطني، أو وفائه لعلاقات زوجية أو شخصية، أو لموت عزيز لا يحسن العيش بعده!
واستصحابا لتلك النظرية ذات الصلة بالحرية الشخصية، ترى بعض القوانين الوضعية كالقانون الإنجليزي والقانون الهولندي، أن قتل الرحمة أمر شخصي يخص الفرد نفسه دون غيره، ويمكن له أن يطلب إيقاعه به بموجب سلطانه على ذاته ورضاه بوقوع >الجريمة< عليه، بشروط كثيرة محددة منها:
1- أن يكون قتل الرحمة على يد طبيب مؤهَّل علمياً، ومسجَّل في نقابة الأطباء·
2-أن يكون المريض عاقلاً بالغا سن الرشد القانوني
3-أن يكون المرض عضالا لا يرجى شفاؤه، ويسبب آلاماً مبرحة للمريض·
4- تقديم المريض موافقة خطية على إنهاء حياته·
هذا، بينما ترى كثير من القوانين الأخرى أن قتل الرحمة هو جريمة كيفما وقعت، ولو بموافقة المجني عليه، لكنها جريمة أقل جسامة من جريمة القتل العمد العادي، وبناء على هذا فإن قتل الرحمة يستحق تخفيف العقوبة على القاتل مراعاة لبواعثه النبيلة، وشفقته على المقتول الذي أعطاه الإذن بقلته، عن طواعية واختيار ورضا وهو بالغ عاقل، فمن حق مريض ميؤس من شفائه قتله بمادة قاتلة بناء على طلبه، أو رفع أجهزة الإنعاش الصناعي أو وسائل التغذية عنه بناء على طلبه ففارق الحياة، فلا يعاقب معاقبة القاتل العمد، بل تخفف عنه العقوبة المقررة للقتل العمد·
هذا، وتنص قوانين أخرى ومنها القوانين العربية، على أن قتل الرحمة يعاقب عليه بعقوبة القتل العمد، مع ملاحظة استبعاد القصاص في بعض هذه القوانين، ولو كان بطلب من المجني عليه وموافقته، وذلك لتوافر أركان الجريمة من إزهاق روح إنسان حي، وقصد جنائي معلوم يتضمن الاعتداء على نفس بشرية مصانة غير أن هذه القوانين فوضت القاضي عند تقدير العقوبة بتخفيفها إلى السجن نحو عشر سنوات، مراعاة لشرف الباعث وتبدل المقصد في تخليص المريض من آلامه، إذ لا يعقل أن يسوى بين القاتل انتقاماً، والقاتل بدافع الشفقة والحرص على إراحة المريض من آلامه وأوجاعه المبرحة·
< حكم قتل الرحمة في الإسلام
لا خلاف بين علماء المسلمين في اعتبار قتل الرحمة >من حيث المبدأ< في تعتبر جريمة فظيعة لما فيها من اعتداء صارخ على النفس البشرية التي حرم الله تعالى الاعتداء عليها وقتلها إلا بالحق، وذلك لعموم قوله تعالى: في >سورة المائدة -32< {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا}·
أما ما يتعلق بمدى مسؤولية وعقوبة من قتل غيره قتل رحمة بناء على طلبه، فيخرج هذا على مسألة ذكرها الفقهاء السابقون وهي قولهم: من قال لآخر: اقتلني، فقد أبرأتك من دمي، أو وهبتك دمي، فقتله الآخر إلخ···
وقد كان للعلماء تجاه هذا الموضوع ثلاثة أقوال على النحو التالي:
القول الأول: يجب القصاص من القاتل لعموم أدلة القتل العمد، ومنها >سورة المائدة -45< {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين} وبهذا قال المالكية والظاهرية، أما إذن المجني عليه للطبيب ونحوه، فهو ساقط الاعتبار لأن النفوس معصومة بعصمة الإسلام·
القول الثاني: لا قصاص على الجاني، وإنما عليه الدية لوجود الشبهة، وهي هنا إذن المريض له بأن يقتله، وإن كان هذا الإذن غير جائز شرعا، لكنه يولد شبهة مؤثرة تسقط القصاص، وإذا كان كذلك فعلى الجاني إعطاء الديه من ماله الخاص، لا من مال أهله وبهذا قال الحنفية، غير أن هذا لايمنع من معاقبة القاتل وتعزيزه بالسجن ونحوه، ردعا له ولأمثاله وصيانة للنفس البشرية عموما·
القول الثالث: لا قصاص ولا ديه على الجاني، للشبهة المؤثرة وهي: إبراء الآمر له من دمه، لكن يعاقب الجانب بعقوبة تعزيرية مناسبة تردعه وأمثاله عن التجرؤ على أرواح الناس، وبهذا قال الجمهور وهم هنا: الشافعية والحنفية، وذلك اعتمادا على وجود الشبهة وعلى القاعدة المعروفة: الفعل المتولد من مأذون فيه لا أثر له، أي: لا قصاص فيه هنا·
هذا، وبناء على ماذكر في هذه الأقوال يبدو: أنه إذا أذن ورثة المريض- الميؤوس من شفائه- للطبيب في تنفيذ قتل الرحمة فهو عند الفقهاء أيضا بحسب الأقوال الثلاثة الآنفة، إن كان دافعهم الشفقة والرحمة لا التخلص من المريض للحصول على الإرث، وقد ذكر الطحاوي وغيره: أن ولي الدم كالأخ ونحوه، إن قال لآخر: أقتل أخي فأنا ولي دمه، فقتله فلا قصاص وإنما الدية، وذلك لوجود شبهة الإذن من ولي المقتول، وإن كان الإذن غير جائز شرعاً·
هذا، وفي مقام الموازنة بين هذه الأقوال يترجح عند الشيخ >محمد أبي زهرة< يرحمه الله قول الجمهور الآنف ذكره، وذلك باستبعاده الآخذ بالقول الذي ذهب إليه المالكية وهو القصاص من القاتل، ويرى أنه ينبغي مراعاة الباعث والاعتداد به هنا، وهو إذن المجني عليه لغيره في أن يقتله، فلا نعتبر الفعل قتلا عمدا محضاً، ولا الطبيب الجاني مجرماً إجراماً كاملاً، لذا لا يقتص منه بل يعاقب تعزيزا·
< حكم الوصية بقتل الرحمة
تدل الكثير من النصوص الشرعية على عدم جواز الوصية بقتل الرحمة، فإذا أوصى المريض الطبيب أو الممرض بأن لا يعالجه أو لا يوصل له الأجهزة التي تبقي على حياته ولو لفترة، كانت هذه الوصية باطلة وغير شرعية، وكذا لو أوصاه أن يحقنه بمادة تسرع وفاته أو أوصاه بأن ينزع عنه الأجهزة التي تبقي حياته كان ذلك باطلا، والأصل في بطلان هذه الوصية قول الله تعالى:{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} >النحل-90<، وهل هناك فعل أفحش وأكثر منكراً وبغياً من إزهاق النفس التي عصمها الله؟
ثم إنه يحرم على الطبيب أو غيره تنفيذ هذه الوصية ولا ينبغي له العمل بها، لأنها لا تنسجم مع أحكام الشرع، ولا مع أخلاق المهنة الطبية، لأن الطبيب لم يتصف بهذا الوصف ولم يأخذ هذا الموقع ليقوم بقتل المرضى أو يتسبب بإنهاء حياتهم، وإنما وجد لمعالجتهم وبث الأمل فيهم ورفع معنوياتهم ومحاولة إسعافهم حتى آخر لحظة من حياتهم·
< فتاوى معاصرة تحرم قتل الرحمة
سبق القول: إن قتل الرحمة من الأمور الطارئة على المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وبناء على هذا فقد عرض موضوع قتل الرحمة على الكثير من الجهات الدينية المعاصرة كهيئة المجمع الفقهي الإسلامي في جدة ولجنة الفتوى في الأزهر الشريف فقررتا صراحة: أنه لا يجوز قتل الرحمة بأي حال من الأحوال، وأن ذلك عدواناً على النفس المعصومة ولو كان ميؤوساً من شفائها، وأنه ينبغي الأخذ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في هذا الكون، ولا يجوز اليأس من رحمة الله، بل ينبغي على الأطباء وغيرهم تقوية معنويات المريض ورعايته ورعاية أهله، وحثهم جميعاً على الصبر والتحمل، بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه·
وهكذا يتضح أن بعض القوانين لا تجرّم - بشروط معينة - قاتل المريض بدافع الرحمة به والإشفاق عليه إذا كان هذا برضاه، لأنه يملك نفسه وروحه مطلقا وهو حر التصرف فيهما!
بينما ترى قوانين أخرى تجريم هذا الفعل لكن مع عدم مساواته من حيث العقوبة بالقتل العمد، مراعاة لنبل المقصد وشرف الباعث وإذن المريض··!
أما الشريعة الإسلامية فقد حرمت قتل الرحمة واعتبرته قتلا عمدا من حيث المبدأ، يستحق فاعله العقاب الأخروي، أما الجزاء الدنيوي فقد اختلف الفقهاء في تقديره، فرأى بعضهم أن فيه القصاص، ورأى آخرون أن لا قصاص فيه لقيام الشبهة التي يدرأ بها الحد والقصاص، وإنما فيه التعزير الذي قد يكون فيه سجن القاتل وحرمانه من ممارسة مهنة الطب، وربما إيقاع عقوبات أخرى عليه تبعا لتقدير القاضي
SHOOQ
التعريف بقتل الرحمة: قتل الرحمة هو: إنهاء حياة مريض لا يُرجَى شفاؤه من آلامه المبرحة بدواعي الإشفاق عليه، سواء كان هذا بطلب المريض أو بطلب أهله، أو بإرادة منفردة من الطبيب أو الممرض أو غيره، وسواء أكان الإنهاء بفعل إيجابي أم بفعل سلبي·
ويقسم القانونيون والأطباء قتل الرحمة إلى نوعين:
النوع الأول: قتل الرحمة الإيجابي وذلك بالفعل والمبادرة: ويكون بإعطاء الطبيب أو غيره للمريض ماينهي حياته وآلامه، سواء كان هذا المعطى طعاماً، أو سماً ماحقا، أو دواء مميتا أو نحو ذلك مما يعجّل بإنهاء حياة المريض ووفاته·
وقد يكون هذا النوع من القتل بإزالة ورفع وسائل التغذية الموصولة إلى جسم المريض، أو إزالة ورفع أجهزة الإنعاش الصناعي الموضوعة للمريض، أو نحو ذلك مما يعالج به المريض فعلا للإبقاء على حياته·
النوع الثاني: قتل الرحمة السلبي وذلك بالامتناع عن الفعل: ويكون بامتناع الطبيب أو غيره عن إعطاء المريض العلاج اللازم، أو منع توصيل أجهزة الانعاش الصناعي للمريض الذي هو في حاجة إليها للإبقاء على حياته، مما يرتب على ذلك مضاعفات خطيرة تؤدي وتعجّل بإنهاء حياة المريض·
> هل عرف المسلمون قتل الرحمة؟
لم يعرف المسلمون في تاريخهم مايسمى: >قتل الرحمة<، ولم يكن شائعا فيما بينهم، بل إن هذا القتل خروج على تعاليم الإسلام وتوجيهاته، لأن تعاليم الإسلام تعتبر النفس البشرية أمانة عند صاحبها وليست ملكاً له، وإنما هي ملك لله تعالى ينبغي المحافظة علىها، بل إن الإسلام يحث المريض، وأهله على الصبر، ويعتبر المرض امتحاناً من الله تعالى، يكفر به الذنوب ويؤجر عليه المريض بأحسن الجزاء إذا اقترن مع الصبر، ففي الآية >155 من سورة البقرة< {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين}، وفي الحديث المتفق عليه: >ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همِّ ولا حزن ولا أذى ولا غمِّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّرالله بها من خطاياه<·
وقد منع الإسلام المريض وأهله من تمني موته ليتخلص مما يعانيه، وأرشدهم إلى طلب الخير أنى هو، ففي الصحيحين: >لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لابد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي<·
بل إن التعاليم الإسلامية تدعو إلى زيارة المريض ومؤانسته ورعايته وأهله والدعاه له، وتحث على زيادة اللجوء إلى الله وحده ليكشف الضر ويرفع البلاء، وفي الصحيحين أن النبي [ كان يعود المرضى ويقول: >رب الناس أذهب الباس، اشف أنت الشافي، لاشفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما<، وفي >سورة النمل الآية -62<{أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويشكف السوء}، وفي سنن الترمذي: >إذا دخلتم على مريض فنفِّسوا في أجله<، أي أسمعوه الكلام الطيب، وأمِّلوه بطول العمر، وأنه سيشفى من مرضه بإذن الله تعالى، ويعود إلى ممارسة أعماله وحياته العادية صحيحاً معافى·
< نظرة القوانين إلى قتل الرحمة
ترتبط فكرة قتل الرحمة عموما بنظرية طلب الانتحار أو الشروع في قتل النفس، وكان هذا شائعا ولا يزال في بعض المجتمعات، وهو يقوم على فلسفة الحرية الشخصية المطلقة للإنسان، وأنه هو مالك بدنه وروحه يتصرف فيها كما يشاء، وخصوصا إذا كان تصرفه لغايات ومسوغات سامية، كتكفيره عن تقصير اجتماعي أو جرم وطني، أو وفائه لعلاقات زوجية أو شخصية، أو لموت عزيز لا يحسن العيش بعده!
واستصحابا لتلك النظرية ذات الصلة بالحرية الشخصية، ترى بعض القوانين الوضعية كالقانون الإنجليزي والقانون الهولندي، أن قتل الرحمة أمر شخصي يخص الفرد نفسه دون غيره، ويمكن له أن يطلب إيقاعه به بموجب سلطانه على ذاته ورضاه بوقوع >الجريمة< عليه، بشروط كثيرة محددة منها:
1- أن يكون قتل الرحمة على يد طبيب مؤهَّل علمياً، ومسجَّل في نقابة الأطباء·
2-أن يكون المريض عاقلاً بالغا سن الرشد القانوني
3-أن يكون المرض عضالا لا يرجى شفاؤه، ويسبب آلاماً مبرحة للمريض·
4- تقديم المريض موافقة خطية على إنهاء حياته·
هذا، بينما ترى كثير من القوانين الأخرى أن قتل الرحمة هو جريمة كيفما وقعت، ولو بموافقة المجني عليه، لكنها جريمة أقل جسامة من جريمة القتل العمد العادي، وبناء على هذا فإن قتل الرحمة يستحق تخفيف العقوبة على القاتل مراعاة لبواعثه النبيلة، وشفقته على المقتول الذي أعطاه الإذن بقلته، عن طواعية واختيار ورضا وهو بالغ عاقل، فمن حق مريض ميؤس من شفائه قتله بمادة قاتلة بناء على طلبه، أو رفع أجهزة الإنعاش الصناعي أو وسائل التغذية عنه بناء على طلبه ففارق الحياة، فلا يعاقب معاقبة القاتل العمد، بل تخفف عنه العقوبة المقررة للقتل العمد·
هذا، وتنص قوانين أخرى ومنها القوانين العربية، على أن قتل الرحمة يعاقب عليه بعقوبة القتل العمد، مع ملاحظة استبعاد القصاص في بعض هذه القوانين، ولو كان بطلب من المجني عليه وموافقته، وذلك لتوافر أركان الجريمة من إزهاق روح إنسان حي، وقصد جنائي معلوم يتضمن الاعتداء على نفس بشرية مصانة غير أن هذه القوانين فوضت القاضي عند تقدير العقوبة بتخفيفها إلى السجن نحو عشر سنوات، مراعاة لشرف الباعث وتبدل المقصد في تخليص المريض من آلامه، إذ لا يعقل أن يسوى بين القاتل انتقاماً، والقاتل بدافع الشفقة والحرص على إراحة المريض من آلامه وأوجاعه المبرحة·
< حكم قتل الرحمة في الإسلام
لا خلاف بين علماء المسلمين في اعتبار قتل الرحمة >من حيث المبدأ< في تعتبر جريمة فظيعة لما فيها من اعتداء صارخ على النفس البشرية التي حرم الله تعالى الاعتداء عليها وقتلها إلا بالحق، وذلك لعموم قوله تعالى: في >سورة المائدة -32< {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا}·
أما ما يتعلق بمدى مسؤولية وعقوبة من قتل غيره قتل رحمة بناء على طلبه، فيخرج هذا على مسألة ذكرها الفقهاء السابقون وهي قولهم: من قال لآخر: اقتلني، فقد أبرأتك من دمي، أو وهبتك دمي، فقتله الآخر إلخ···
وقد كان للعلماء تجاه هذا الموضوع ثلاثة أقوال على النحو التالي:
القول الأول: يجب القصاص من القاتل لعموم أدلة القتل العمد، ومنها >سورة المائدة -45< {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين} وبهذا قال المالكية والظاهرية، أما إذن المجني عليه للطبيب ونحوه، فهو ساقط الاعتبار لأن النفوس معصومة بعصمة الإسلام·
القول الثاني: لا قصاص على الجاني، وإنما عليه الدية لوجود الشبهة، وهي هنا إذن المريض له بأن يقتله، وإن كان هذا الإذن غير جائز شرعا، لكنه يولد شبهة مؤثرة تسقط القصاص، وإذا كان كذلك فعلى الجاني إعطاء الديه من ماله الخاص، لا من مال أهله وبهذا قال الحنفية، غير أن هذا لايمنع من معاقبة القاتل وتعزيزه بالسجن ونحوه، ردعا له ولأمثاله وصيانة للنفس البشرية عموما·
القول الثالث: لا قصاص ولا ديه على الجاني، للشبهة المؤثرة وهي: إبراء الآمر له من دمه، لكن يعاقب الجانب بعقوبة تعزيرية مناسبة تردعه وأمثاله عن التجرؤ على أرواح الناس، وبهذا قال الجمهور وهم هنا: الشافعية والحنفية، وذلك اعتمادا على وجود الشبهة وعلى القاعدة المعروفة: الفعل المتولد من مأذون فيه لا أثر له، أي: لا قصاص فيه هنا·
هذا، وبناء على ماذكر في هذه الأقوال يبدو: أنه إذا أذن ورثة المريض- الميؤوس من شفائه- للطبيب في تنفيذ قتل الرحمة فهو عند الفقهاء أيضا بحسب الأقوال الثلاثة الآنفة، إن كان دافعهم الشفقة والرحمة لا التخلص من المريض للحصول على الإرث، وقد ذكر الطحاوي وغيره: أن ولي الدم كالأخ ونحوه، إن قال لآخر: أقتل أخي فأنا ولي دمه، فقتله فلا قصاص وإنما الدية، وذلك لوجود شبهة الإذن من ولي المقتول، وإن كان الإذن غير جائز شرعاً·
هذا، وفي مقام الموازنة بين هذه الأقوال يترجح عند الشيخ >محمد أبي زهرة< يرحمه الله قول الجمهور الآنف ذكره، وذلك باستبعاده الآخذ بالقول الذي ذهب إليه المالكية وهو القصاص من القاتل، ويرى أنه ينبغي مراعاة الباعث والاعتداد به هنا، وهو إذن المجني عليه لغيره في أن يقتله، فلا نعتبر الفعل قتلا عمدا محضاً، ولا الطبيب الجاني مجرماً إجراماً كاملاً، لذا لا يقتص منه بل يعاقب تعزيزا·
< حكم الوصية بقتل الرحمة
تدل الكثير من النصوص الشرعية على عدم جواز الوصية بقتل الرحمة، فإذا أوصى المريض الطبيب أو الممرض بأن لا يعالجه أو لا يوصل له الأجهزة التي تبقي على حياته ولو لفترة، كانت هذه الوصية باطلة وغير شرعية، وكذا لو أوصاه أن يحقنه بمادة تسرع وفاته أو أوصاه بأن ينزع عنه الأجهزة التي تبقي حياته كان ذلك باطلا، والأصل في بطلان هذه الوصية قول الله تعالى:{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} >النحل-90<، وهل هناك فعل أفحش وأكثر منكراً وبغياً من إزهاق النفس التي عصمها الله؟
ثم إنه يحرم على الطبيب أو غيره تنفيذ هذه الوصية ولا ينبغي له العمل بها، لأنها لا تنسجم مع أحكام الشرع، ولا مع أخلاق المهنة الطبية، لأن الطبيب لم يتصف بهذا الوصف ولم يأخذ هذا الموقع ليقوم بقتل المرضى أو يتسبب بإنهاء حياتهم، وإنما وجد لمعالجتهم وبث الأمل فيهم ورفع معنوياتهم ومحاولة إسعافهم حتى آخر لحظة من حياتهم·
< فتاوى معاصرة تحرم قتل الرحمة
سبق القول: إن قتل الرحمة من الأمور الطارئة على المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وبناء على هذا فقد عرض موضوع قتل الرحمة على الكثير من الجهات الدينية المعاصرة كهيئة المجمع الفقهي الإسلامي في جدة ولجنة الفتوى في الأزهر الشريف فقررتا صراحة: أنه لا يجوز قتل الرحمة بأي حال من الأحوال، وأن ذلك عدواناً على النفس المعصومة ولو كان ميؤوساً من شفائها، وأنه ينبغي الأخذ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في هذا الكون، ولا يجوز اليأس من رحمة الله، بل ينبغي على الأطباء وغيرهم تقوية معنويات المريض ورعايته ورعاية أهله، وحثهم جميعاً على الصبر والتحمل، بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه·
وهكذا يتضح أن بعض القوانين لا تجرّم - بشروط معينة - قاتل المريض بدافع الرحمة به والإشفاق عليه إذا كان هذا برضاه، لأنه يملك نفسه وروحه مطلقا وهو حر التصرف فيهما!
بينما ترى قوانين أخرى تجريم هذا الفعل لكن مع عدم مساواته من حيث العقوبة بالقتل العمد، مراعاة لنبل المقصد وشرف الباعث وإذن المريض··!
أما الشريعة الإسلامية فقد حرمت قتل الرحمة واعتبرته قتلا عمدا من حيث المبدأ، يستحق فاعله العقاب الأخروي، أما الجزاء الدنيوي فقد اختلف الفقهاء في تقديره، فرأى بعضهم أن فيه القصاص، ورأى آخرون أن لا قصاص فيه لقيام الشبهة التي يدرأ بها الحد والقصاص، وإنما فيه التعزير الذي قد يكون فيه سجن القاتل وحرمانه من ممارسة مهنة الطب، وربما إيقاع عقوبات أخرى عليه تبعا لتقدير القاضي
SHOOQ